2011/04/21

الثورات الإصلاحية .. ماذا يقول عنها التاريخ؟

لطالما أحببت أن تكون هذه المدونة خالية من المواضيع السياسية .. ولكن يبدو أنني لن أستطيع الهروب بأفكاري بعيداً عن السياسة في هذه الفترة التي تمر على المنطقة والتغييرات الكثيرة المتسارعة حيث أضحت الثورات حديث العامة والخاصة هذه الأيام

ومادام الحماس يملئ الكهول الذين "هرموا" في انتظار هذه اللحظات التاريخية فلا داعي أن نتحدث عن حالنا نحن الشباب أهل الحماس وصناع الثورات.

حديثي هنا لن يكون مجرد مقال آخر في مدح الثورات ونجاحها في إسقاط عروش هؤلاء الطغاة، فإني أرى الإعلام قد أتخم بذلك

الحقيقة أنني عودت نفسي أني ما وجدت نفسي ماشياً في طريقٍ يتوافق وعاطفتي وهوى نفسي إلا عاودت النظر فيه لأتأكد أنه ليس من تلبيس إبليس وتزين هوى النفس، ولا شك أنني متحمس جداً لهذه الثورات وفرح برحيل هؤلاء الطغاة الخونة ولكني وقفت ونظرت في التاريخ لأبحث عن أحداث مشابهة فأستخلص منها بعض العبر


الثورات الإصلاحية
من وجهة نظري تنقسم الثورات إلى نوعين أساسيين:
  • ثورات تحريرية: مثالها ثورة التحرير الجزائرية وغيرها من الثورات التحريرية ضد المستخربين (المستعمرين)
  • ثورات إصلاحية: وهي الثورات التي تنطلق لإصلاح الدولة بعد وصولها إلى مرحلة لا تطاق من الفساد
الفرق الجوهري بينهما أن الحكام في الحالة الأولى هم من المحتلين الغرباء وفي الثانية هم بعض المترفين الفاسدين من جنس الشعب نفسه

حديثنا هنا عن الثورات الإصلاحية لا عن الثورات التحريرية .. عبر التاريخ كانت هناك العديد من تلك الثورات الإصلاحية ضد فساد النظام الحاكم في الدول بعضها قام بها الشعب بمفرده وبعضها جاءت عن طريق انقلابات عسكرية مدعومة دعماً هائلاً من الشعوب

ما وجدته هو أن معظم الثورات الإصلاحية تأتي نتيجة لانفجار غاضب من الشعب ضد مجموعة من المفاسد التي أرهقت كاهله فتأتي الثورة لإزالة تلك المفاسد ولكن ما يحدث -استناداً إلى التاريخ - هو أن تلك الثورات تأتي بمفاسد أخرى معها ليست بأهون من التي كانت من قبل ولكن تلك المفاسد الجديدة لا ترى ولا تعرف إلا بعد مضي السنين.

ما يشوب الثورات دائماً أنها تأتي نتيجة للغضب .. والغضب لا يأتي بالخير إلا مشوباً بالشر .. فالغضب مرافق دائم للفوضى ولسوء الحكم وللتسرع .. ومضاد للروية وللتعقل .. ولو طالبت شخصاً غاضباً بالروية والتعقل لجلبت لنفسك السباب والشتائم

(وإني أرى اليوم أن الثورات قد باتت مقدسة فلو حاولت الدعوة إلى التعقل والتفكير بدون حتى النقد لاتهمت بالعمالة وبأنك ضد حرية الشعوب!)

فلنتكلم بالشواهد التاريخية ..

الثورة الفرنسية
أشهر مثال لثورة إصلاحية حديثة "ناجحة" والمثال الذي يحتذي به الكثيرين هي الثورة الفرنسية .. الثورة التي تعتبر أحد أهم ركائز الحضارة الغربية الحديثة، الثورة التي كانت حد فاصل بين أوروبا المتخلفة وأوروبا "المتقدمة"

جاءت الثورة الفرنسية ضد نظام الملكية المطلقة (أو الملكية الاستعبادية كما أحب أن أسميها) وضد النظام الأرستقراطي والإقطاعي وضد الطبقية الفاحشة وضد طغيان حكم الكنيسة وفسادها .. كلها مفاسد كبيرة .. وتم التخلص منها كلها .. للأبد !

أزالت الثورة كل تلك المفاسد وانطلقت "الحضارة" الغربية الحديثة ولكنا أتت بمفاسد جديدة مناقضة لها ..

أزالت الملكية المطلقة وأتت بالنظام الديموقراطي الذي يعطي حق الحكم والتشريع كاملاً بيد أغلبية الشعب، وهو نظام سقيم عانى ويعاني وسيعاني منه العالم إلى ما شاء الله (ولسنا في صدد مناقشة مفاسد النظام الديموقراطي هنا)

أزالت طغيان حكم الكنيسة وفسادها الذي فشا واستفحل .. ولكنها أتت بالمقابل بكارثة العلمانية وبفصل الدين عن الدولة وبالإباحية وهي ويلات عانت وتعاني وستعاني الإنسانية منها إلى ما شاء الله

الثورة الروسية
الثورة الروسية هي ثورة أخرى قامت ضد فساد نظام حكم روسيا القيصرية وضد طبقية المجتمع وأسباب مشابهة لأسباب الثورة الفرنسية

أزالت الثورة المفاسد التي انفجرت لإزالتها ولكنها كررت نفس أخطاء الثورة الفرنسية حيث أتت بنقيض المفاسد التي أزالتها

حطمت النظام الحكم القيصري الفاسد وأتت - على يد الثورة البلشفية - بأحد أكثر الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية في التاريخ

أزالت نظام الكنيسة والحكم الديني الفاسد وأتت بالشيوعية الإلحادية اللادينية

أزالت النظام الرأسمالي المشهود له بالفساد واستئثار القلة بالثروة وأتت بالنظام الشيوعي والاشتراكي السخيف الذي جعل جميع المواطنين سواسية أكثر مما يجب ! كان الأغنياء يملكون البلاد أصبح لا أحد يملك شيء فكل شيء ملك الدولة !

"الثورة العربية"
مثال آخر أقرب إلى المنطقة هو ما يسميه البعض بـ"الثورة العربية" وهي الثورة التي قادها حسين بن علي بالتعاون مع الإنكليز ضد الدولة العثمانية، المفاسد التي خرجت هذه "الثورة" لإزالتها هي مفاسد كبيرة من أهمها النظام الإقطاعي المستبد والعنصرية التركية ضد العرب ولكن المفاسد المترتبة على هذه "الثورة" أعظم بكثير جداً بحيث أن المنافع لا تذكر أمام المفاسد

أزالت الثورة الإقطاعيين الأتراك المستبدين .. ولكنها أتت على النقيض من ذلك بما هو أسوء بكثير .. أتت بالإنكليز مكانهم!

تحررت الشعوب من تلك العنصرية للعرق التركي .. ولكنها أتت على النقيض من ذلك بمرض القومية العربية الذي لازلنا نعاني ويلاته إلى الآن

ثورات أخرى
والثورة التركية جاءت ضد نظام الدولة العثمانية المتهالك في آخر سنواتها وضد النظام الإقطاعي والطبقية وضد المؤسسة الدينية الرسمية التي - على حسب ما قرأت - تركت الجهاد والاجتهاد ولم تؤدي الدور المنوط بها

أزالت كل تلك المفاسد فتحسنت تركيا اقتصاديا وعسكرياً .. ولكنها أسقطت الخلافة الإسلامية وأتت بالعلمانية ودعت إلى القومية التركية

الثورة الإسلامية الإيرانية أتت فأسقطت حكم الشاه الخائن العميل ولكنها جاءت بنظام أشبه بأنظمة العصور الوسطى في أوروبا حيث تقع الدولة كلها بين إصبعين من أصابع "المرشد العام للثورة" يقلبها كيفما يشاء

وحتى ثورة الفاتح من سبتمبر العظيم !!! جاء القذافي ضد التواجد الغربي في ليبيا وضد سرقة ثرواتها وانظر إلى ما آل إليه الحال


وهناك أمثلة أخرى كثيرة ...

هذا حال كل الثورات الإصلاحية التي تنطلق دائماً بمبادئ سامية وبديهية وحقوق يتفق عليها الجميع فتتعاطف معها الشعوب وتثور مثل الثيران في غضب جامح وفوضى عارمة لا بصر فيها ولا بصيرة فتبالغ في الحكم وتجعل الانتقام والثأر غايتها وتأتي بمفاسد لا يعرفها عموم الناس إلى بعد مضي زمن طويل


إني لا أكاد أجد ثورة إصلاحية واحدة في التاريخ سلمت من ذلك العيب .. إلا أني لا أرى شيئاً من المفاسد أتت بها هذه الثورات التي تحدث اليوم بل أرى نظرة شمولية ووعي عام إلى حد ما .. فهل هذا تكرار آخر للتاريخ حيث سنكتشف الأخطاء بعد مضي زمن طويل أم ستكون هذه الثورات نموذج عالمي غير مسبوق !؟ ما رأيكم؟

الموضوع للنقاش .. ولا ننسى أن ندع العاطفة جانباً

هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

اعتقد اننا لن نرى تلك المفاسد اذا طبقنا شرع الله
واستخدمنا نظامه الذى شرعه لنا فى الحياة

T@rek يقول...

أعجبني رأيك جدا ً ..و كم هو مُدهش أنه جاء بوقت ٍ مبكر ٍ من انطلاق الثورات ..

أنت بلا شكّ حين طرحت المشكلة ... كان في ذهنك حل ٌ ما .. , أم أنك تبحث عن حل ٍ يقترحه قراءك ؟؟

أرجو إن كنت تمتلك رؤية معينة لمخرج من أزمة الثورات التي وضعنا أنفسنا بها , أن تحبرنا به ... و شكرا ً