2011/07/13

اللغة العربية وتهديد اللهجات العامية

بسم الله الرحمن الرحيم

تعرضت اللغة العربية طوال تاريخها إلى الكثير من المهددات، انبرى لها فئة من أبناء الأمة الإسلامية* فمع انتشار الفتوحات الإسلامية بدأ أول مظاهر تشويه اللغة العربية عند تعرب الأعاجم بعد دخولهم في دين الله حيث دخلت معهم العديد من اللهجات واللكنات والتراكيب الأعجمية، تصدى لذالك التهديد علماء النحو بوضعهم لقواعد اللغة العربية وعلى رأس هؤلاء مؤسس علم النحو سيبويه، تتابعت بعد ذلك المهددات وكان من أواخرها تهديد محو اللغة العربية خلال الحقبة الاستخرابية (ما تسمى بالاستعمارية!) تصدى لذلك أيضا نخبة ممن سخرهم الله لذلك كأمثال الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي وقف في وجه فَرنسة الجزائر ومحو هويتها العربية الإسلامية كما قال في بيته الشهير "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب" وها هي الجزائر اليوم عربية إسلامية بعد قرن ونصف من محاولات محو اللغة العربية ولولا فضل الله أولا ثم جهد هؤلاء العلماء لغدت اللغات الاستخرابية هي اللغات الرسمية في الدول العربية كما هو الحال في كثير من الدول الإفريقية مثلاً.

أما اليوم فإننا نقف أمام مهدد آخر ليس بأقل خطورةً مماه سبقه، بل قد يكون أعظم لأنه يأتي هذه المرة من عند أنفسنا من دون شعور منا فهو خفي على معظم الناس، فقلما أجد من يتكلم عن ما أسميه "ترسيم اللغة العامية" وهو رفع اللهجات العامية المنطوقة في الشارع إلى مستوى لغات منطوقة ومكتوبة وهذا يحصل في أغلب الحالات في وسائل الإعلام بجميع صورها السمعية والبصرية والمقروءة وأكثر من ذلك كلها وأشدها خطراً الإنترنت.

إن رفع مستوى اللهجة العامية بحيث تذاع في الوسائل السمعية والبصرية لهو خطأ في كثير من الحالات (هناك استثناءات طبعاً) خصوصاً عندما يكون الموضوع رسميا كالبرنامج الثقافية والحوارية الجادة ونشرات الأخبار والتقارير والأشرطة الوثائقية وذلك لما يعطي للهجات العامية من صبغة رسمية ويقلص من دور اللغة العربية الفصحى.

وقد لا تستخدم اللهجة العامية مباشرة بل تستخدم منها مفردات وعبارات أو تراكيب جمل وهذا أخطر، فبعض التراكيب انتشرت فلم يعد يدرك خطأها العامة بل وحتى الخاصة مثال ذلك قولهم "ما رأيك في هكذا أشياء!" فهذا التركيب آتٍ من العامية الشامية كقولهم "شو رأيك في هِيك أشياء" فبسبب ضعف اللغة العربية عند الصحفي تجده يستخدم التركيب العامي ويكتفي بتغيير الكلمات إلى الفصحى وهذا خطأ جسيم، في الوقت الذي نرى فيه التأثر بالتراكيب اللغوية العامية الشامية نرى تأثر كبير بالمفردات العامية المصرية وهذا حديث آخر لا أريد أن أسترسل فيه.

ولكن حتى هذا يعتبر هيناً مقارنةً مع الكارثة التي تحدث في الصحافة المقروءة والإنترنت، ما يحدث هو كتابة العامية ورفع اللهجات العامية إلى مستوى لغات مكتوبة (بمجرد كتابتها لم تعد لهجة فقد أصبحت لغة) إن هذا لهو قتل اللغة العربية بدون أن يشعر بخطورة ذلك مرتكبي الجريمة ..
لماذا؟ إن ما حفظ اللغة العربية بصورتها الأصلية لقرون من الزمن - قرون كانت كفيلة بإظهار لغات أخرى وإخفائها - إن ما حفظها بعد عناية الله وقرآنه الكريم لهو توحيد كتابة اللغة العربية فالذي يمنع تصنيف اللهجات العربية حاليا من قبل اللغويين العالميين كلغات منفصلة بعد ما أحدث الزمن بينها من اختلاف عظيم هو توحد تلك اللهجات في كتابتها، فمع أن اللهجة المغربية قد لا تكون مفهومة في عمان ولا اللهجة العمانية في المغرب هي بمفهومة فالاختلاف بينهما شاسع، إلا أن كلاً من تلك اللهجات لا تبتعد كثيراً عن اللغة العربية الفصحى وهي اللغة المكتوبة لذلك تجد العامي المسن الأمي يفهم من الفصحى الشيء الكثير سواء أكان في المشرق أو المغرب.

سألت يوماً أحد العلماء في اللغويات (دكتور من فنزويلا) عن اللغة العربية فقال لي أن شأنها عجيب، لم يحدث من قبل أن بقيت لغة واحدة على حالتها لأكثر من 15 قرن، فنحن نفهم اليوم القرآن ونفهم قصائد الجاهلية ومعلقاتها البليغة فما بالك بكلامهم العادي، فعبر الأزمنة الماضية دونت اللغة العربية بصيغتها الفصيحة وذلك لأن الكتابة كانت مقتصرة على النخبة المتعلمة المثقفة حتى عهد قريب جداً أما الآن ومع الإنترنت والرسائل النصية القصيرة والمحادثة الكتابية فقد أتيحت الفرصة للهجات العامية بأن تكتب، فالمحتوى الكتابي العامي الموجود اليوم في الصحافة وفي الإنترنت بمنتدياتها ومدوناتها كبير جداً

وهذا - بحكم أمر الواقع - يضعنا أمام حقيقة تفرع لغات جديدة عن اللغة العربية الأم خصوصاً مع وجود كثير من المتحمسين إلى ترسيم اللهجات العامية ومن المتآمرين على الإسلام ولغته العربية ومن الحاقدين المتربصين من علماء اللغويات في الغرب، فإن استمر الوضع على ما أرى فلا بد من ظهور تصنيفات للغات جديدة متفرعة عن العربية في أمهات كتب اللغويات في الغرب وما يلي ذلك من توابع أترك لكم تخمينها

الوسيلة لدرئ ما هو آتٍ من المفاسد يكون بالرجوع إلى اللغة العربية الفصحى على الأقل عند الكتابة، وجعل وسائل الاتصال والإعلام هذه وسيلة لتحسين اللغة العربية عند أبنائها .. لا وسائل لتدميرها ..

والله أعلم،


* أقول "الأمة الإسلامية" وليس "الأمة العربية" (إن كان هناك شيء باسم هذا الأخير!) لأن المثالان اللذان سآتي على ذكرهما في السطور التالية - وهما سيبويه و عبد الحميد ابن باديس - كلاهما مسلمان أعجميا النسب عربيا اللسان .. وهناك أمثلة أخرى كثيرة غيرهما ..